للحلويات الشرقية في ثقافتنا مكانة تتجاوز مجرد كونها طعاماً حلواً؛ إنها جزء أصيل من هويتنا وذاكرتنا الجمعية. إنها رمز للبهجة، للاحتفال، ولحظات الاستراحة الهادئة. تعود جذور هذه الصناعة العريقة إلى فترات تاريخية ضاربة، حيث تطورت في مطابخ السلاطين والقصور العباسية والعثمانية، مستفيدة من وفرة السكر والمكسرات والبهارات النادرة التي كانت تجلبها قوافل التجارة. كل قطعة من البقلاوة أو الكنافة أو القطايف تحكي قصة حضارات مرت من هنا، وحرفيين أتقنوا فن تحويل المكونات البسيطة إلى تحف فنية. إن تذوق هذه الحلويات هو بمثابة رحلة عبر الزمن، نتشارك فيها المذاق الذي أحبه أسلافنا قبل مئات السنين.
هذا الإرث العريق هو ما منح الحلويات الشرقية شعبيتها الخالدة. هي جزء لا يتجزأ من الطقوس الاجتماعية؛ لا يكتمل شهر رمضان الكريم إلا برائحة الكنافة الطازجة، ولا تكتمل الأفراح إلا بصواني البقلاوة المذهبة. إنها مصدر دفء يجمع الأهل والأصدقاء حول طاولة القهوة، ورمز للكرم حين تقدم للضيوف، تحمل معها رسالة ضمنية مفادها: "أهلاً بك، تفضل واستمتع بحلاوة الحياة معنا."
بلح الشام: نجم المقليات الذهبي وعالمية المذاق
من بين هذا التنوع الكبير في عالم الحلويات الشرقية، يبرز بلح الشام (المعروف أيضاً باسم الطرّمش في بعض المناطق، أو توفا في تركيا، أو بالاسمه العالمي "Churros" في إسبانيا والبرتغال) كأحد أكثر الحلويات بساطة وشعبية وانتشاراً. يتميز بلح الشام بقوامه الساحر: مقرمش من الخارج، وطري وهش من الداخل، مغطى بطبقة سخية من الشربات (القطر) العطري بنكهة ماء الورد أو ماء الزهر.
أصل التسمية والانتشار
يُعتقد أن أصل تسمية "بلح الشام" يعود إلى شكله الذي يشبه ثمرة البلح أو التمر في طولها، بينما يشير الشق الثاني "الشام" إلى انتشاره وشعبيته الكبيرة في بلاد الشام التاريخية (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) ومنها انتقل إلى مصر وبقية المنطقة. انتشاره السريع يعود لسببين رئيسيين: سهولة مكوناته وبساطة طريقة تحضيره التي تعتمد على تقنية "عجينة الشو" (Choux Pastry)، وقدرته الهائلة على امتصاص الشربات، مما يمنحه مذاقاً حلواً وغنياً جداً.
مكانته ودوره الاجتماعي
لا يزال بلح الشام يحتل مكانة مميزة كـ "حلوى الشارع" المفضلة، حيث تجده يباع ساخناً وطازجاً في أسواق المدن، مما يجعله تجربة حسية فريدة. إنه حلوى سريعة التحضير مقارنة بالبقلاوة والكنافة، لكنها لا تقل عنهما بهجة. إنها الحلوى التي يمكن أن تصنعها الأم في المنزل لتدفئة الأجواء، أو تُقدم في المناسبات السريعة، تجسيداً للفرحة في قالب ذهبي مقلي ومغمور بالعسل.
الحلويات الشرقية: أكثر من طعم، إنها ضيافة
في الختام، يظل طبق الحلوى الشرقية، أياً كان نوعه، هو اللمسة الأخيرة والمثالية لأي وليمة. سواء كانت قطعة كنافة محشوة بالجبن، أو بسبوسة مروية بالشربات، أو أصابع بلح الشام الذهبية، فإنها تعبر عن كرم صاحب البيت وحفاوته. هذه الأطعمة الحلوة هي جزء من لغة الضيافة غير المنطوقة، تحمل معها رسالة اعتزاز بالماضي، واحتفاء بالحاضر، وتفاؤل بالمستقبل، وتؤكد أن المذاق الحلو هو دائماً أفضل ختام لأي حكاية.